بعد سنينٍ من رحيلك، ها أنا اليوم أقف على بعد خطوتين وعمرٍ من الشوق أمام قبرك، لا أحمل إلا وجعًا لم يبرأ، وحنينًا لا سبيل لإطفائه، وباقةً حمراء من زنبق العنكبوت تحاول إقناعي أن الفراق أبدي ولا سبيل لرؤيتك من جديد.
أبي، هلّا عدت لأراك للمرة الأخيرة؟ لضمةٍ ربما تروي فؤادًا فتته رحيلك، ساعدني لنُزيل عن الزنبق لعنة ارتباطه بالفراق، وعن قلبي نارًا أحرقته بالاشتياق.
وقفت طويلًا أتأمل البيت، التصقت عينيّ بنافذة حجرتي القديمة، تُرى هل لا زالت جدرانها تذكرني؟
نقشتُ عليها أحلامي، ورأيتها تكبُر أمامي، تتجذر في الأرضية، ثم تسمو لتعانق السقف.
مشيت باتجاه المدخل مرتعشةً خُطاي، يُثقلها الشوق والحنين، بلهفة الطفل لأحضان أمه أسرعت، وما أن ولجت حتى وصلت نبضات قلبي عنان السماء.
ارتقيت الدرجات، تُسابقني لهفتي، وحين وصلت مددت يدي لأفتح الباب، لكنها توقفت في منتصف المسافة بين المقبض وقلبي.
لا أستطيع الدخول، وأبي ليس هناك بعد الآن.
كيف أدخل وقد غادر هو دون عودة!
لا بد أن الجدران مالت وقد رحل من كان يسندها، وتشقق السقف الذي رسم لنا عليه أحداث قصص ما قبل النوم.
وجع مغترب
أغلقت الهاتف وسمحت لدموعي بالانهمار بعد أن حاصرتها طويلًا ومنعتها من الفرار؛ خوفًا من أن تفضح ما يعتمل بصدري من وجعٍ يؤججه الشوق، ويُقِيد الحزن نيرانه.
مرَّت سنواتٍ لم تطأ فيها قدمي تراب الوطن، خطفتني الغربة التي ذهبت لها طوعًا بحثًا عن عملٍ ظننته سيُهديني أموالًا طائلة تُبعد عني وعائلتي شبح الفقر والعَوَز.
لكنها سرقت عمري ولم أنل منها سوى وجع الفقد. أُساير الأيام لتمضي، لكنها تأخذ معها كل اللحظات التي تمنيت أن أعيشها مع أطفالي الذين لم يعودوا كذلك، فالزمن لم يتسلَّ بتلوين خصلات شعري بالأبيض فقط، وإنما مارس لعبته الأثيرة في تغيير الملامح.
فحوّل طفلي لمراهق لم أشاركه طفولته ولم أعلمه ركوب الدراجة فتتعالى صرخاته الحماسية تعانقها ضحكاتي الجذِلة، وصيّر ابنتي عروسًا لا تحمل في جهازها ذكريات قصةٍ حكيتها لها قبل النوم. لم أعش تفاصيلهم ولم تُدفئ حكاياهم لياليّ الباردة.
ولكن جرحي الأعمق الذي لم ولن يندمل ولو بعد مئةٍ عام كان رحيل أبي دون أن أودّعه، أو أن أعانقه للمرة الأخيرة، لم يتسنَّ لي حتى أن أودِعَه قبره، فأضعه برفقٍ بعد أن أزيل أي حصاة قد تؤلمه وتقض مضجعه الأخير.
تبًا لكل هذا البعاد الذي يقتات على مشاعري ولا يروي ظمأه إلا ماء عيني في كل ليلةٍ أأوي فيها لفراشي متدثرًا بأمنيات العودة.
أضف تعليق